الأمرُ بقَبولِ العَفْوِ وبالعُرْفِ والإعْرَاضِ عنِ الجاهِلينَ في قوله تعالى ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ ]الأعراف : 199 [.

أبو فهيمة عبد الرّحمن عيَّاد البجائي

 

الحمد لله ربِّ العالمين، قيُّوم السَّموات والأرضين، والصَّلاة والسَّلام على النَّبيِّ المصطفى الأمين، المبعوث رحمة للعرب والأعجمين؛ وبعد: فقد قال الله -سبحانه وتعالى-، ―وهو أصدق القائلين: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ]النّساء: 122―[؛ قال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾؛ وسأتطرّق لشطر الآية الأخير ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾ الذي به يكتمل المقصود من قول الله -تعالى- ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف﴾ الذي فيه التّوجيه الرّباني لعباده المؤمنين بقبول اليُسر والسَّهل من أخلاق النَّاس وما سمحت به أنفُسُهم والأمر بالعرف؛ وهو المعروف الذي ضدُّه المنكر، كما في قوله -تبارك وتعالى- من وصيّة الحكيم لقمان لابنه ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور ]لقمان: 17[؛ والإعراض عن أهل الجهالة والسَّفه من النَّاس؛ يعني عدم مقابلتهم بجنس صنيعهم السيِّئ، وإنَّما يكون ذلك بالكفِّ عنهم والصَّفحِ والتَّوليةِ عنهم؛ فمَن خرج في سلوكِه وتعاملِه ومنطقِه مع غيره عن نطاق العفو واليسرِ والعُرف، سقط في المنكر؛ فتعيَّن الإعراضُ عنه.

قال العلَّامة السَّعدي -رحمه الله تعالى-: « هذه الآية: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾ جامعةٌ لحُسن الخُلق مع النَّاس وما ينبغي في معاملتهم: فالذي ينبغي أن يعامِل به النَّاس : أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق.. » (تفسير الشيَّخ السَّعدي -رحمه الله-)، وفي معنى العُرف، ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- قول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بأنَّ العُرفَ هو المعروف، ثمَّ، قال في موضعٍ آخرَ قريبٍ من الموضع الأوَّل : « وقول البخاري، العُرف المعروف، نصَّ عليه عروة بن الزبير والسدي وقتادة وابن جرير وغير واحد، قال ―إبنُ كثير―:وأمر الله نبيَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يأمر عباده بالمعروف، ويَدخل في ذلك جميعُ الطَّاعات، وبالإعراض عن الجاهلين؛ وذلك إن كان أمرا لنبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فإنَّه تأديبٌ لخَلقه باحتمال مَن ظَلَمهم واعتدى عليهم؛ لا بالإعراض عمَّن جهلَ الحقَّ الواجبَ من حقِّ الله، ولا بالصَّفح عمَّن كَفَر بالله وجهِل وحدانيَّتَه وهو للمسلمين حَرب. » تفسير الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-.

فالإنسان مأمورٌ شرعا بكلِّ خُلقٍ حميد، ومَنهيٌّ عن كلِّ خُلق ذميم؛ وليس معنى الأخذ بالعفو: قَبول ما حرَّمه الشَّرعُ ومجَّه الطَّبعُ من الأخلاق المذمومة والتَّجاوز عنها دون إنكارٍ على صاحبها ونُصحٍ له بالكفٍّ عنها، من شتَّى أنواع الأخلاقِ السَيِّئَة التي هي معاصي في نفسِها كالكذبِ، والأنانيَّةِ وإخلافِ الوعودِ وخيانةِ العهودِ والإسرافِ في الأوقاتِ والأموالِ والأنفُسِ والظُّلم والغِيبةِ والنّميمةِ وتضييع الأماناتِ والغِشِّ، وغيرها؛ وكذلكَ التي هي مِن جنسِ أمراضِ النُّفوس، الجالبةِ لمهالكِها،إن لم يتداركها صاحبُها بالتّزكية والتّصفية والتّربية الإسلاميّة؛ فذلك علاجُها، ومن تلكم الأمراض النَّفسيّة: كثرةُ الكلامِ وحُبُّ الظُّهورِ وكثرةُ الخِلطةِ وَمَا يَصْحَبُها، ولا يَنفَكُّ عنها، من فُضولِ الحديثِ والسَّماعِ والنَّظرِ واللِّقاءِ وإضاعةِ الأعمارِ والانشغال عمَّا هُو أَوْلى وأجدى، وحبُّ التَّصدُّرِ والشُّهرةِ الذي هو وليد السَّعيِ للزّعامةِ والسّيادة والرّئاسة، والاعتدادُ بالنّفسِ والأثرةُ بالرّأيِ ولو على حسابِ الحقِّ والصّوابِ! وغيرها كثير، نسأل الله العافية؛ فالأخذُ بالعَفوِ ليس معناهُ التَّسَاهُل والتَّقاعُس عن ردِّ المناكِرِ والذُّنوبِ والتَّميُّعِ والبِدعِ والضلالاتِ، وترك دحضِ أقاويل وشُبَه المبطل الماكِر؛ وإنَّما الواجب حيالَ ذلك الأمرُ بالعرفِ الذي أمَرَ به الشَّرع؛ فالمنكر والذُّنوب يُغَيَّر بالمعروف والحَسَنات، والبِدع والضَّلالات تُغَيَّر بالسُّنن والِهدايات؛ فَينصَحُ المسلمُ أَخاه ويَصْبر ويُصابر، والمنصوحُ يرَجع ولا يُكابِر، وإلَّا أعرض عن جهلِه وأبى جهالتَه، والله -تبارك وتعالى- يقول ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين ]العنكبوت: 69[؛ فمن جاهد نفسَه ―في الله―؛ فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- سَيُيَسِّرُ له سُبُل الخير والهُدى ويجنِّبه سبل الشَّرِّ والرَّدى، والله الموفّق وحده، لا ربَّ سِواه.

وممَّا يجدرُ ذِكرهُ أنَّ التزام المسلم بما أمره الله -تعالى- به أمرَ إيجابٍ واجبٌ، يَأثَمُ إِن أتى بضدِّه، وِمنه إلزامُ الله لعباده بأَخلاق الإسلامِ الواجِبَة: كالصِّدق وحِفظِ الأمانةِ والحفاظِ على العهدِ والوفاءِ بالوَعدِ وتركِ الكذِبِ والبُعدِ عن المُراوغةِ ونبذِ الرّوَغانِ، والالتزام بالإتقانِ والتّفاني في العملِ من حيثُ أنَّه أمانةٌ ومَسؤوليَّةٌ سيُسأل عنها، والصِّدق والإخلاص في القولِ والفعلِ والتّركِ، والجدّ في الخير والعزيمة في الأمرِ، والعَدل والتَّواضُع بأَن يعرفَ المرءُ قَدْر نفسِه؛ فلا يرفعُ نفسَه إلى مكانةٍ أعلى من قدْرها وأثقَلُ من وَزنِها ويُنازع الأمرَ أهلَه، وغير ذلك من أخلاقِ المسلمين المستقيمين على العهد الأوّل: عهد الأنصار والمهاجرين، فهي أخلاق القرآن والسّنّة؛ ولا شك أن هذه الخصال تدخل في مثل قوله تعالى ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير ]هود: 112[، وعليه؛ فليس معنى الحضّ على هذه الخِلال والمطالبة بها بين النَّاسِ ―عُموما―، والأهلِ والأصحابِ والخِلَّانِ ―خُصوصا―: أنَّ الحاضَ والمطالبَ يُلزِمُ المطلوبَ منه مِن عند نفسِه ومن جُعبةِ فكرِه، فقد شاعَ بين الناس وذاع قولُ قائلهِم: « لا تُلزِمِ النَّاس ! » و: »لا تُلْزِمُني؟! »، ، ثمّ زادوا : »لم تقنعني! » فلا وكلّا! وإنَّما الذي ألزمَ هُو الله -عزَّ وجلّ-، ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ-78-كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون ]المائدة: 78-79[، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم ]التّوبة: 71[، ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ]الأعراف: 165[، و: « إنّ أوَّل ما دَخَل النَّقْصُ عَلى بني إسرَائيل أنَّه كان الرَّجُلُ يَلقَى الرَّجلَ فيقُولُ: يا هذا اتَّقِ الله ودَعْ ما تَصنَع، فإنَّه لا يحِلُّ لكَ، ثُمَّ يَلقاه مِنَ الغَدِ وهو على حالِهِ، فَلا يَمنعُهُ ذلك أنْ يكونَ أكيلَهُ وشريبَهُ وقعيدَهُ؛ فلمَّا فعلوا ذلك ضَربَ الله قلوبَ بعضهِم ببعض » ثمّ قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ-78-كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون-79-تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ]المائدة: 78-81[ و« مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا فَليُغَيِّره.. »، و« الدّين النّصيحة.. » وفعلُ ما يخرمُ الحياءَ ويَنقُضُ المروءةَ فكٌّ لقَيد الشَّرع وتجاوزٌ لحدّه ف« إنْ لم تَستَحِ فَاصْنَع ما شئت! » قالها المصطفي -صلَّى الله عليه وآله وسلّم- على سبيل التّحذير من المخالفة والإلزام بالطّاعة، والقناعة والاقتناع يصدُّ عنهما الهوى فيُغَيِّب حُسنَ الاتّباع والله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ -17- الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ]الزُّمر: 17-18…

وأخيرا، فلا شكَّ أنَّ المرء كلَّما كثُرت مخالطَتُه للنَّاس كلَّما كان أحوج إلى هدايات هذه الآية الكريمة الحكيمة: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾؛ فالخلطة محلّ التَّعرُّض لأخلاق النَّاس؛ بأقوالهم وأفعالهم وتصرّفاتهم، وكَشفهم عن مَكامن نُفوسِهِم بعوائدهم ومألوفاتهم من مختلف التَّصرُّفات والتَّصوُّرات التي تنبني عليها السُّلوكات؛ ونحن في زمنٍ كثُرت فيه المخالفاتُ لشَرع الله بل حتَّى للمروءة والنَّخوة والعقل، إلا ما شاء الله، والله المستعان؛ فما أعظم حاجة المؤمن المخالط للنَّاس إلى التزوُّد بالعفو والأمر بالعرف والإعراض عن الجاهلين.

وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا اله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وكتب أبو فهيمة عبد الرَّحمن عياد البِجائي

بجاية، ليلة الاثنين: 12 رمضان 1436

29/06/2015م