ذكر أكثر من ثلاثين صفة من صفات الكذَّابين

فالكذَّاب، نظرًا لكبر جريمته وما قد يترتَّب عنها من آثار وخيمة؛ فإنَّه يتَّصف بأوصافٍ كثيرةٍ متلازمةٍ، كلُّ صفةٍ تستدعي مثيلاتها وشبيهاتها، وكلُّ ذنبٍ منها يتداخل مع ذنبٍ أو ذنوبٍ أخرى كثيرةٍ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى:” ثمَّ إنَّ الله جعل الأشياء متلازمة، وكلُّ ملزوم هو دليل على لازمه؛ فالصِّدق له لوازم كثيرة؛ فإنَّ من كان يَصْدُق، ويتحرَّى الصِّدق، كان من لوازمه أنَّه لا يتعمَّد الكذب، ولا يخبر بخبرين متناقضين عمدًا، ولا يُبطن خلاف ما يُظهر، ولا يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ، ولا يخون أمانته، ولا يجحَد حقَّا هو عليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يمتنع أن ]تكون[ لازمةً إلَّا لصادقٍ؛ فإذا انتفت انتفى الصِّدق، وإذا وُجدت كانت مستلزمةً لصدقه، والكاذب بالعكس؛ لوازمه بخلاف ذلك.”[1]

فمن أبرز صفات الكذَّاب التي يتَّصف بها بحسب ما يقترفه من المعاصي: صفة النِّفاق، لقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ[2]، قال الحسن رضي الله عنه:” يُعدُّ من النِفاق: اختلاف القول والعمل، واختلاف السِّرِّ والعلانيَّة، والمدخل والمخرج، وأصل النِّفاقِ، والذي بُني عليه النِّفاقُ: الكذب[3]

وقد سئل العلَّامة ابن باز رحمه الله هذا السُّؤال: “إذا كان الشَّخص دائمًا يكذب هل يُطلق عليه: من صفات المنافقين، أو يُقال: أنت منافق؟”  فأجاب:” يُقال: فيك خَصلة من خِصال النِّفاق، احذرها وتُبْ إلى الله منها “[4].

وهذا يرجع إلى كون الكذَّاب يُبطن خلافَ ما يُظهر من حيث الإخبار؛ فيُخفي الحقيقة، ويُبدي الكذب؛ الدي هو خلاف الواقع والحقيقة؛ فيتكلَّم به.

ومن صفاته: الفجور في الأقوال والأفعال، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :”إذا كذَبَ العبدُ؛ فَجَر ”[5]، وكذا من صفاته؛ إلقاء الكلام على عواهنه، والرَّجم بالغيب، وسوء الظَّنِّ والعمل به، قال الله تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ ]الأنعام: 116 [، ويخرصون؛ بمعنى يكذبون[6]؛ فمن أوصاف الكذاب أيضا: التَّخرُّص، قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ ]الذَّاريات: 10[، والتَّخرُّص؛ هو التَّكهُّن والتَّوقُّع بالظَّنِّ الباطل، قال الإمام الطَّبريِّ رحمه الله:” ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ يقول تعالى ذكره: لُعِن المتكهِّنون الذين يتخرَّصون الكذب والباطل فيتظنَّنونه”[7] ، والخرَّاصون: الكذَّابون [8]، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :” إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ”[9] .

ومن صفاتهم؛ الإرجاف؛ الذي هو إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به، والخوض في الأخبار [10]؛ ممَّا يولِّد الاضطراب والارتباك في المجتمع؛ حيث أنَّ الإرجاف من الرَّجفان؛ أي الاضطراب الشَّديد [11]، قال الله تعالى عن المرجفين من المنافقين والكذّابين : ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ ]الأحزاب: 60 [.

وكذلك من صفاتهم؛ الغيبة والبهتان؛ والبهتان هو القذف بالباطل وافتراء الكذب [12]، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَة؟ قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم، قَال: ذِكْرُكَ أَخاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَان في أَخِي مَا أَقُول؟ قَال: إِنْ كَان فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ “ [13].

ومن أوصاف الكذاب؛ الاضطراب في المقال، والتَّناقض، والنِّسيان، والقلق، ولاسيما عند المساءلة، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :” إنَّ الصِّدقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَالكَذِبَ رِيبَةٌ”[14] ، قال المناوي رحمه الله: “وَالكَذِبَ رِيبَةٌ” أي : يقلق القلب ويضطرب [15]  ، ومنها ضعف العقل، والطَّيش، والتَّهوُّر، قال الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى: “ما خان شريفٌ، ولا كذب عاقلٌ ولا اغتاب مؤمن”[16]، ولا شكَّ أنَّ ادِّعاء الرَّجل على أخيه ما ليس فيه؛ كذبٌ، بل بهتانٌ وغيبةٌ، كما سبق.

ومنها خسَّة النَّفس، وانعدام المروءة، قال الأحنف أيضًا رحمه الله: “اثنان لا يجتمعان أبدًا: الكذب والمروءة”[17] ، ومنها قلَّة الحياء، وضعف الورع أو انعدامه، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :”إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شِئتَ“[18]، ومنها أيضا كثرة الحلِف مع مهانة النَّفس، قال الله تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ﴾ ]القلم: 10 [، قال الإمام ابن كثر رحمه الله: “وذلك أنَّ الكاذب لضعفه ومهانته، إنَّما يتَّقي بأَيْمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كلِّ وقتٍ في غير محلِّها، قال ابن عباس : المهين الكاذب”[19].

ومنها كذلك إنفاق السِّلعة بالحلِف الكاذب، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :”ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم يومَ القيامةِ ، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ” ؛ فذكر منهم “والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحلِفِ الكاذبِ أو الفاجرِ”[20] ، ومن صفات الكذبة أيضا؛ اقتطاع مال المسلم أو حقًّا من حقوقه بالكذب والحلِف عليه، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :”مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِه فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ”[21] ، ومنها شهادة الزُّور، قال الله تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ ] النُّور: 13 [، ومنها التَّشبُّع بما لم يُعْطَ، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :”المُتَشَبِّعُ بما لَمْ يُعْطَ، كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ”[22].

ومن صفات الكذابين الخبيثة، الطَّعن في نيَّات النَّاس، وكأنَّه شقَّ على قلوبهم وتبيَّن ما في صدورهم؛ فإنَّ ما في القلوب، لا يطَّلع عليه إلَّا علَّام الغيوب، ومنها القدح في أشخاصهم، وشخصيَّاتهم بغير وجه حق؛ لافتقاره للحجَّة والصِّدق واتِّباعه لبُنَيَّات الطَّريق، ومنها تفسير أعمال العاملين تفسيرًا سَلبيًّا، وحملها على المحامل السَّيِّئة؛ لغلبة سوء الظَّنِّ على الكذاب وقوَّة الهوى وسطوة داعية النفس الأمارة بالسوء وارتفاع صوتها على صوت العقل، ومنها الوشاية، والتَّحريش، والجرأة في مقارفة الباطل، والمراوغة في الكلام، والمناورة بالأفعال؛ فتراه بذيء اللِّسان، متطاولًا يبهت الأبرياء، متحاملًا على الفضلاء، مدَّعيًا عليهم أمورًا من نسج خياله وأوهامه؛ قاطعا لروابط المعاني الدالة على الصدق والشاهدة على صحة المقال؛ فيدخل في كلام ويخرج من آخر، ولو تناقض وانتبه؛ سارع إلى تعليلات فاسدة هي شواهد عند أهل الصدق أنه من جملة الرائغين عن الصدق، الزائغين عن استشعار خشية الله وهو يكذب؛ فكان ذلك كله جزاء وفاقا على عدم احتكامه لنصوص الشَّرع المحرِّمة لتلك المعاصي والشَّافية لتلك الأمراض؛ فلم يتركها؛ وكلها خبائث؛ بل جعل يستسهلها بعد أن تعوَّدها وقلَّ ورعُه؛ فأمعن في اجتراحها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ ]الجاثية: 21 [.

ولقد رأينا نماذج كثيرة على هذا النَّمط في الفتن المدلهمة؛ حيث أتوا من العجائب والمصائب ما حارت منه العقول وأُغلقت دونه الفهوم، وكذلك يصنع الكذب بمن يتخذه مطية لنيل المآرب.

فاللهم إنا نعوذ بك من الكذب وأهله وشره وشرهم، آمين.

وكتبه/ أبو فهيمة عبد الرحمن عياد

موقع العلم والعمل

…………….

[1] كتاب النُّبوات لابن تيمية (1/554).

[2] رواه البخاري (6095) ومسلم (59).

[3] ذمُّ الكذب وأهله (20).

[4] موقع الشَّيخ رحمه الله العامر https://binbaz.org.sa/fatwas/23192/%D9%87%D9%84-

[5] رواه أحمد في مسنده (10/126) وصححه أحمد شاكر.

[6] تفسير الجلالين (164).

[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطَّبري (7/110).

[8] الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي (19/457)، وذكر الشَّيخ عبد العزيز آل الشَّيخ (الفتح الرَّباني: 4/371) عن الواحدي عن جميع المفسِّرين أنَّ المعنى: لُعن الكذَّابون، وعن الزَّجَّاج أنَّ الخرَّاصون هو الكذَّابون.

[9] رواه البخاري (5143).

[10] الجامع لأحكام القرآن (17/234).

[11] نفسه.

[12] المصباح المنير للفيُّومي مادة (بهت).

[13] رواه مسلم (2589).

[14] رواه الترمذي وغيره وصحَّحه الألباني في “صحيح التَّرغيب والتَّرهيب (2930).

[15] فيض القدير للمناوي (3/529).

[16] عيون الأخبار (كتاب الطَّبائع، باب الكذب والقحَّة) لاين قُتَيْبة (2/26).

[17] نفسه.

[18] رواه البخاري (3484).

[19] تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/598).

[20] رواه مسلم (106).

[21] رواه مسلم (218).

[22] رواه مسلم (2130).