سلامة الصدر ركيزة الأخلاق الحميدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى الأمين وبعد،
لقد اعتنى الإسلام بموضوع الأخلاق منذ مطلع بعثة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالأخلاق الحميدة عليها مدار العمل الصالح، والكلام الطيب، والسلوك المستقيم.
ومن جملة الأخلاق الكريمة: سلامة الصدر؛ بل هي فيها ركن ركين ومتن متين؛ لأن القلب السليم هو محل كل خلق قويم؛ والأقوال والأفعال المعبرة عن خلق المرء؛ إنما هي في الأصل تعبير عما في قلبه من خير وشر، وحسن وقبح، وصلاح وفساد، وسلامة ومرض؛ فمن كان سليم الصدر للمسلمين = كان تبعا لذلك حسن الخلق معهم؛ فهي علاقة مُطَّردة لا انفكاك عنها.
وسلامة الصدر صفة أهل الجنة؛ فقد ذكرهم الله تعالى بها في معرض الامتنان عليهم والإحسان إليهم، فقال جل ثناؤه : ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَار﴾ [الأعراف: 43]، قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: “وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين، وأخلاء متصافين.”[1]، وبين جل وعز أن النجاة يوم القيامة والفوز بالجنة تكون بسلامة القلب؛ حيث قال تبارك وتعالى ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88-89]، قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله :”لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا، وقد شرط النَّبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، “أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”.[2]“[3] وهي كذلك صفة الأسلاف الأولين من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ حيث ذكرهم الله جل ذكره مخبرا عنهم؛ فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
ولقد أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهمية الأخلاق في الإسلام؛ فقال:”إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ (وفي روايةٍ: صَالِحَ) الأخلاقِ.”[4]
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: “أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا“[5]
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: “مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ“[6]
والخلق ينقسم إلى قسمين، خلق مع الخالق وخلق مع الخلق.
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحه للحديث الثاني:”فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وفي هذا حث عظيم على حسن الخلق: حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع الناس.
أما حسن الخلق مع الله، فأن يرضى الإنسان بشريعته، وينقاد إليها راضيا، مطمئنا بها، مسرورا بها، سواء كانت أمرا يؤمر به، أو نهيا ينهى عنه…”[7]
وسلامة الصدر تقتضي من المسلم أن يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه، وأن يكره له من الشر ما يكرهه لنفسه؛ فهي عنوان الفضائل كالصدق، وحسن الظن، وسخاء النفس، ومحبة الخير للغير، والنصح، والعفو، والتقى، والتواضع، والنقاء، واحتمال الأذى، وترك الانتقام، والحب في الله، والموالاة، والسماحة، والجود، والكرم، وغير ذلك من مكارم الأخلاق ورفيع الطباع.
فسلامة الصدر تجمع لصاحبها هذه الصفات الراقية التي لا طالما أشاد بها الكتاب العزيز وحث عليها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهي تجعل المسلم سليم الصدر من خير الناس وأفضل الناس؛ فقد “قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ. قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقيُّ النَّقيُّ لَا إْثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ.”[8]
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: “أفضلُ الأعمال: سلامةُ الصدور، وسخاوةُ النفوس، والنصيحةُ للأمة؛ وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة.”[9]
قال الشيخ الدكتور عبد الرزاق البدر حفظه الله منوها بعظمة سلامة الصدر: “من أركان الأخلاق سلامة الصدر. قال صلى الله عليه وسلم :”لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.”[10] فهذا الحديث يعد عمدة في باب الأخلاق؛ بأن يكون صدر المرء سليما لا يكون فيه غل، أو حقد، أو سخائم، أو ضغائن، أو نحو ذلك من أسقام القلوب وأمراضها ﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر: 10]؛ فسلامة الصدر ركيزة عظيمة يقوم عليها الخُلق، والذي في صدره دواخل سيئة وبواطن فاسدة لا يمكن أن يكون من أهل الأخلاق، لأن فساد الباطن وانحرافه ينعكس على ظاهره “أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ“[11] “.[12]
وقال ابن رجب أيضا، رحمه الله تعالى: “فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع؛ التي تقتضي الطعن على سلف الأمة، وبغضهم، والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠].“[13]
فمن أحب نفسه ورجا نصحها وابتغى فلاحها، وأحب أن يكون من أهل الأخلاق العالية ورام الرفعة عند الله جل وعلا؛ فليعتني بصدره وليتعاهد قلبه؛ فيعمل على تطهيره مما فيه من غل وضغن وحسد، وحقد، وكبر ومن سائر الكوامن السيئة؛ فما ارتفع من ارتفع إلا بحسن خلقه، وما نزل من نزل وذل إلا لسوء خلقه.
فعلينا أن نحرص على أخلاقنا ونسعى دوما في إصلاحها بإصلاح قلوبنا، والله وحده الموفق لكل خير، وهو الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه: د. أبو فهيمة عبد الرحمن عياد
بجاية، يوم الثلاثاء 9 رجب 1444
الموافق ل: 31 جانفي 2023
موقع العلم والعمل
https://scienceetpratique.com/
…………………….
[1] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 314)، ط. دار ابن الجوزي، 1426 – 2005.
[2] أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45).
[3] أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (ص: 344)، ط. دار ابن الجوزي، 1437 – 2016.
[4] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (273) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[5] أخرجه الترمذي(1162)، وقال الألباني في صحيح الترمذي: حسن صحيح.
[6] أخرجه الترمذي (2002) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
[7] شرح رياض الصالحين (3/133)، ط. مؤسسة الأميرة العنود، 1431 – 2010.
[8] أخرجه ابن ماجه (4216) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3416).
[9] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من وظائف، لابن رجب (ص: 331)، ط. دار ابن خزيمة 1428 – 2007.
[10] تقدم تخريجه.
[11] أخرجه البخاري (5)، ومسلم (1599).
[12] أحاديث الأخلاق (ص: 19)، ط. دار الإمام مسلم، 1441 – 2020.
[13] لطائف المعارف (صص: 330 – 331).