في استحالة تطبيق اللسانيات العصرية لتحليل النص القرآني بإطلاق  

الحلقة الثالثة

PDF

تنبيه: هذا المقال ليس كتابة أكاديمية بالمعنى المعروف في أعراف البحث العلمي من حيث المنهجية وانتقاء المصطلحات، والعبارات، إلخ. وإنما هو مقال أولي لتعميم المعرفة (article de vulgarisation scientifique)؛ وسأتفرغ إلى تحريره أكاديميا لاحقا بإذن الله.

بسم الله والحمد لله، وبعد:

فبعد أن تطرقت في الحلقة الماضية إلى الفوارق الجوهرية بين كلام الله العزيز؛ الكامل من كل وجه؛ ولذا فهو معجِز؛ وبين كلام الإنسان الخطاء؛ الناقص؛ والكلام واحدة من خواص الإنسان وملكاته؛ يعبر عنه باللغة والكلِم و »بالنسبة لنا؛ فهي ]اللغة[ لا تختلط مع ملكة القدرة على الكلام (langage)؛ فما هي إلا جزء منه؛ وهو جزء هام؛ حقيقة؛ فهي في الوقت نفسه منتَج اجتماعي لملكة القدرة على الكلام ومجموعة من الاصطلاحات الضرورية، تبنتها الهيئة الاجتماعية للتمكن من تنشيط هذه الملكة عند الأفراد. (دي سوسير، درس اللسانيات العامة، 1995، ص: 25).

 ولقد وضع الغرب علما للبحث في هذه الملكة وفي اللغة والتعمق في فهمها ودراسة وظائفها…؛ هو علم اللسانيات؛ الذي : »يُكلم الإنسان عن الإنسان: يبين له كيف بنى، وكيف أتقن (من خلال عدة عراقيل من كل جنس، ورغم تماطل لا بد منه، ورغم بعض التقهقر لوقت ما) أداة الحضارة الأكثر ضرورة ]يقصد اللغة[. وعلى الإنسان أيضا أن يقول ما هي الوسيلة التي تحفظ أو تتلف هذه الأداة؛ التي وُدعت لنا والتي نحن المسؤولون عنها. (ميشال بْرِيال، محاولة في علم المعاني، علم المفردات، 1897، صص: 2-3).

هذا، وقد بينت الدراسات الفلسفية للغة أن اللغة البشرية غير قادرة على استيعاب تسمية جميع الكائنات الموجودة في الكون؛ بل وهي عاجزة عن التعبير عن جميع ما يدور في خلد الإنسان من أفكار وهواجس وعواطف؛ فأنت ترى مشاعر مثل الخوف أو المحبة أو البغض مثلا؛ يعبر الإنسان عن كل واحد منها بلفظ أو لفظين؛ بينما أنها في حقيقتها وماهيتها وطبيعتها لها جوانب من الإحساس والشعور كثيرة لا تعبر عنها كلمة الخوف، ولا الحب ولا البغض، أضف إلى ذلك أن هذه العواطف نفسها تختلف من إنسان لآخر؛ ولكنهم يعبرون جميعا عنها بنفس الكلمات؛ فمادامت لغة الإنسان غير ملمة بالتعبير عن « ممتلكها الإنسان »؛ فكيف بعلم يدرسُها؛ وهو قاصر عنها وأضيق منها بمراحل؛ بل يستعمل هذه اللغة الناقصة لدراسة اللغة؛ فكيف له أن يتطرق لدرس كلام الله المُعجِز؟ !

وفي الحلقة الماضية أيضا؛ ذكرت قول الله عز وجل الكريم: (الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)؛ فأحببت أن أستأنف عليه كلامي؛ وهو أن في هذه الآية الكريمة؛ ذكر الله سبحانه أمرا غاية في الأهمية؛ وهو قوله (خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)؛ فجمع بين خلق الإنسان وتعليمه الكلام.

وهذا يدل على أن قضية اللغة واللسان والكلام أعمق بكثير من أن تخضع لدراسات معاصرة تنكر الغيب وتكفر بأن الإنسان خلقه الله؛ وهذا هو معتقد دي سوسير؛ وقدا أشرت إلى ذلك في الحلقة السابقة؛ ولهذا نجد شرخا عميقا بين آراء فلاسفة اللغة وعلماء اللسانيات التاريخية وعلماء اللسانيات التقابلية واللسانيات المقارنة حول مصدر أو أصل اللغة عند الإنسان؛ وذلك لأن هذه القضية؛ أصل اللسان واللغة؛ هي في الحقيقة فرع صغير من أصل كبير؛ هو خلق الإنسان؛ والذي هو بدوره هو فرع عن أصل أعظم منه؛ وهو خلق الكون؛ (لَخَلْقُ  السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )، ولكن أتباع سوسير لا يؤمنون بهذه الحقائق المسطرة في جميع الكتب السماوية؛ فلذا تجدهم افترقوا طرائق قددا في هذه المسألة الخطيرة؛ ولن يجتمعوا على رأي أبدا ما داموا على نفس الطريق يسيرون.

قلت: فهنا يحق لكل باحث لبيب؛ له قلب يفقه به؛ ويؤمن بالآية السالفة الذكر؛ أن يتساءل مستنكرا: علم لساني معاصر هذه حاله وهذا حال واضعه، كيف له أن يدرس كلام من خلق الكون؟! وواضعه لا يؤمن أصلا بأن للكون خالقا!

ولكن ولله الحمد؛ علماء اللغة المسلمون يعلمون هذا جيدا؛ أعني بأنه لا يمكن فصل اللغة ودرس اللغة عن عقيدة خلق الكون والإنسان؛ ولذا تراهم ينادون بالكف عن العبث بكلام الله؛ بإخضاعه لهذه اللسانيات المادية التجريبية.

وسأبين الآن؛ إجمالا؛ ببعض الأمثلة استحالة دراسة القرآن بهذا العلم الدنيوي؛ وهو من علوم الآلة؛ لا شك؛ ولكن تسميته بذلك مع إضافة قيد: علم من علوم الآلة لدراسة اللغات البشرية. وسأقتصر على ثلاث أمثلة بتحليل معجمي لألفاظ قرآنية؛ يستند إلى علمي المعجمية والمعاني؛ عسى أن يتبين من خلاله المقصود لكل منصف، أما التفصيل فسيأتي في حلقة غير هذه بإذن الله، ودونكم التحليل:

  1. فلنبدأ بلفظ الجلالة « الله »؛ الذي ورد في القرآن الكريم 2699 مرة وفي ثنايا 85 سورة؛ كفي مثل قوله سبحانه: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ  ) ]البقرة: 255 [؛ فكيف نفهم هذا اللفظ الجليل إذا اتبعنا طريقة اللسانيات السوسيرية في تحليل الألفاظ وشرح المعاني؟ فهل نفهمه على عقيدة سوسير على أن اللغة هي عبارة عن منتَج اجتماعي وثقافي وأنها اصطلاح واتفاق وعقد بين أفراد المجموعة اللغوية…؟ فحينذاك لا بد إذن أن يختلف معناه من مجتمع إلى آخر ومن ثقافية لأخرى، وهل يصح مثلا أن نقول أن أفراد المجتمع اللغوي اتفقوا من – عندهم -، كما يقول سوسير؛ على تحديد معناه؟ أم أن الأمر غير ذلك كله؛ وهو أن معنى الله توقيفي؛ ولا يجوز تحويره وتغييره وتحيينه عن طريق ظاهرة التطور اللغوي؟ فالجواب يعرفه أبسط طلبة اللغة.

ويتضح المثال أكثر إذا ما رأينا كيف يسمى الله سبحانه في اللغات الأخرى؛ فهنالك يتضح التباين الموجود بين اللغات والثقافات؛ ففي الفرنسية مثلا؛ أطلقوا عليه اسم (Dieu)، وأراد بعض الكتاب والمترجمين العرب والعجم جعله مرادفا للفظ « الله »؛ وهدا خطأ شنيع؛ لأن (Dieu) المنبثق من الاستعمال اللغوي العرفي الفرنسي (وعلى أساس علم اللسانيات المعاصرة) يحمل معاني خطيرة؛ لو أطلقها عالم بها في حق الله سبحانه لوقع في قول عظيم. ومن أراد التأكد فليراجع قواميس اللغة الفرنسية.

هذا، وليعلم أن معنى لفظ الجلالة التوقيفي منبثق من معاني التوحيد والتعبد لله وحده، بينما لفظة (Dieu)؛ فهي نابعة من وثنيات الفلسفة الإغريقية وتحريفات الديانة النصرانية وتخريفات المفكرين الغربيين؛ فهم اصطلحوا على ذلك، ( وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)؛ « وليس الخبر كالعيان » حديث صحيح؛ أخرجه أحمد وصححه الألباني.

  1. نأخذ اسما آخر؛ وهو أيضا من أعظم أسماء الله الحسنى؛ وهو الرحمن؛ قال الله عز وجل (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا)؛ فهذه اللفظة العظيمة؛ استنكرها فطاحل لغة العرب؛ وهم كفار قريش؛ وما أدراك ما قريش؛ حيث لم يكونوا يعرفون معناها.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: « قوله تعالى : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن أي لله تعالى . قالوا وما الرحمن على جهة الإنكار والتعجب ، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب . وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك ، بقوله : وما الرحمن ولم يقولوا ومن الرحمن « . تفسيره.

وقال العلامة السعدي رحمه الله:  » (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ)؛ أي: وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم. { قَالُوا } جحدا وكفرا { وَمَا الرَّحْمَنُ } بزعمهم الفاسد أنهم لا يعرفون الرحمن، وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول أن قالوا: ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله وهو يدعو معه إلها آخر يقول:  » يا رحمن  » ونحو ذلك كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله، فكل واحد منها دل على صفة كمال. » تفسيره.

فهل نقول كما تنص عليه اللسانيات وعلمي المعاجم والمعاني أن المعنى سيأخذ من « المدونة (corpus)؛ وهي من وضع الإنسان؛ يخزن فيها المعاني المنتجة من الاستعمالات اليومية للغة في مجموعة لغوية ما… » (عبد الرحمن عياد، علما المعاجم والمعاني. مقاربة دراسية لألفاظ الإسلام، باللغة الفرنسية، ص: 14)، أم أننا نتبع المعنى المنزل الذي أراده الله سبحانه وتعالى وبلغه عنه نبيه صلى الله عليه سلم؟

  1. لفظة « آمين »؛ التي يقولها المسلم في كل صلاة بمعدل 17 مرة في اليوم؛ على أقل تقدير؛ فمعناها « اللهم استجب »؛ هكذا مع ذكر لفظ الله؛ فهي دعاء؛ وهذا ما دلت عليه السنة؛ بينما مقابلها في اللغة الفرنسية (amen !) هكذا وتليها علامة تعجب؛ فمعناه عند الفرنسيين هو: (d’accord, et, ainsi soit-il).

فقد شرحها معجم « كنز اللغة الفرنسية (TLF) » آخذا معناها من النصرانية هكذا:

RELIG. CHRÉT. Mot le plus fréquemment employé pour exprimer une adhésion ou un souhait à la fin d’une prière, et qui se traduit ordinairement par la formule française ainsi soit-il :

وقدم مرادفين لها؛ هما: (d’accord, et, ainsi soit-il).

قال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله : » قول (آمين) بعد الفاتحة ليست من آيات القرآن، وليست من آيات الفاتحة، وإنما هي دعاء بمعنى: استجب يا ربنا، فـ (آمين) معناها: اللهم استجب، فهي سنة وليست واجبة بل سنة بعد الفاتحة يقولها القاري في الصلاة وغيرها، يقول: (آمين) إذا قرأ الفاتحة، يقولها الإمام.. يقولها المأموم.. يقولها المنفرد في الصلاة وخارجها، آمين، هذه السنة، ليست واجبة ولكنها مستحبة، وهي دعاء وليست آية من الفاتحة ولا من غيرها، وإنما هي دعاء. نعم. » موقعه العامر رحمه الله: ((https://binbaz.org.sa/fatwas/5571/%D8%AD%D9%83%D9%85

فعلى إثر هذا التحليل وما أسعفته به من التدليل؛ يتبين للباحث الأريب صحة ما ذهبت إليه من استحالة توظيف اللسانيات المعاصرة لتحليل كلام الله عز وجل؛ القرآن العظيم.

وإن كانت هذه الدراسة التحليلية قد يُخيل إلى قاصر الفهم في فلسفة اللغة؛ ضيِّق العَطَن في علوم اللسان؛ ضحل التمييز في مقاربة الظواهر اللغوية ومقارنتها وسبر أغوارها؛ فيتوهم أن ذلك ضرب من السفسطة الكلامية أو التقعر في مقاربة معاني الألفاظ ومبانيها؛ إلا أن المتمرس في اللغويات يدرك؛ بعد هذا البيان؛ حجم الخطورة في إخضاع القرآن المجيد المعجِز إلى ناموس دي سوسيبر.

ولكن الحقيقة التي قد يجهلها البعض، ويقد يُغفلها البعض، أن دي سوسير نفسه بريء من أفاعيل أولئك الباحثين الذين عبثوا بآيات الله بتحليلها بعلم لساني لم يرج به مؤسسه تحليل الوحي، كما أسلفت الكلام عن ذلك في الحلقة الثانية.

فكان القصد من عملنا؛ انطلاقا من نيتنا في صيانة كلام الله عز وجل؛ هو بيان استحالة توظيف اللسانيات على تفسير القرآن الكريم؛ وبيان بطلان ذلك بالاعتماد على اللسانيات نفسها؛ على غير طريقة من بحث في هذا الموضوع من الكتاب والمفكرين الذين نظروا إلى هذه المسألة من الجانب الإديولوجي وما أفرزته أعمال رؤوس هذا المسلك اللغوي التحليلي على شاكلة محمد أركون، ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وأترابهم ومن دونهم؛ حيث كانت خاتمة أعمالهم؛ ولاسيما وأنهم قد نفقوا؛ التحريف لكلام الله سبحانه؛ وبما يحمل هذا اللفظ من معنى، وبقسميه المذكورين في الحلقة الثانية.

ولكن ثمة استثناء قد يلجأ إليه الدارس اللغوي للقرآن الكريم؛ التقي الحاذق؛ الذي لم تسعفه نفسه في كبح جماحها في التنقيب في كلام الله العربي المبين بأدوات لسانيات دي سوسير السويسري الفرنسي؛ وهو ما يتعلق بتحليل الخطابات والحوارات الواردة في القرآن؛ شريطة أن يجري العمل مجرى التفسير اللغوي بأصوله العلمية وشروطه المطروقة عند علماء السلف؛ قديما وحديثا؛ وجعل التحليل تابعا للتفاسير الموثوقة عند أهل الإسلام؛ فيحيط الباحث نفسه بها ويحمي نفسه بأزمتها، لئلا أن تزل قدمه من حيث لا يشعر؛ فيقول في كتاب الله بجهل وهوى. وقد أتطرق إلى بيان هذا الاستثناء مستقبلا إن شاء الله؛ لتعم الفائدة، بحول الله.

وكتب/ أخوكم: د. أبو فهيمة عبد الرحمن عياد

أستاذ محاضر في علوم اللسان.

ملحوظة: سأنشر النص مترجما/مكتوبا بالفرنسية حينما أفرغ منه بحول الله.

موقع العلم والعمل:

https://scienceetpratique.com/13455-2/