بسم الله الرحمن الرحيم
الخصومات سببها البعد عن الشريعة
كلما ابتعد المسلم عن شريعة الإسلام كثر شقاؤه وتنغصت حياته، فالشريعة السمحاء جاءت لتصحح النوايا والأقوال والأعمال، قال الله سبحانه وتعالى : ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) ]القمر: 22[، قال العلامة السعدي رحمه الله: » كرر تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم.«
وفي باب الخصومات بين الناس، ترى أكثر الخائضين فيها المسببين لها؛ إنما يرجع ذلك لتركهم العمل بنصوص الشريعة، إما بسبب الجهل أو بسبب الإعراض؛ من تحريم الظلم، والكذب، ووجوب التثبت في الأخبار بإعمال ما بينه أهل العلم من أحكام، كخبر الفاسق، والمجهول، والعدو، والكاذب، والكلام بالعلم والبينة والدليل، وليس بالتخرص والقيل والقال…، وتحريم الحسد، والعدوان، والنميمة، والغيبة، وسوء الظن، والخوض فيما لا يعنيه، والتحسس، والتجسس، والتنصت، إلى ما هنالك مما يجلب الخصومات بين المسلمين.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: « من عرف قدر السلف، عرف أنَّ سكوتهم عن ضروب الكلام، وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عيا ؛ ولا جهلا ، ولا قصورا؛ وإنما كان : ورعا، وخشية لله، واشتغالا عما لا ينفع بما ينفع. » (فضل علم السلف)، ص: 76.
وقد بين الله تعالى هذا الصنف من الناس، ممن يعمل لسانه ويفرغ جهده لبث الخصومات فقال سبحانه: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ : ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)) ]البقرة: 204[.
قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: » أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله؛ فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا نطق، ظننته يتكلم بكلام نافع، ويؤكد ما يقول بأنه ((وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ)) بأن يخبر أن الله يعلم، أن ما في قلبه موافق لما نطق به، وهو كاذب في ذلك؛ لأنه يخالف قوله فعله؛ فلو كان صادقا، لتوافق القول والفعل، كحال المؤمن غير المنافق، فلهذا قال: ((وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)) أي: إذا خاصمته، وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب، وما يترتب على ذلك، ما هو من مقابح الصفات، ليس كأخلاق المؤمنين، الذين جعلوا السهولة مركبهم، والانقياد للحق وظيفتهم، والسماحة سجيتهم. »
والوقاية من الخصومات تكون بتقوى الله عز وجل والخوف منه، وبتعلم العلم والتفقه في الدين والعمل به، والبعد عن أسبابها وعن كل ما يؤدي إلى الشحناء والتباغض والتناحر، ولا سيما في زمن الفتن، كما هو حال المسلمين في هذا الزمان، والله المستعان.
ولا يفهم من هذا الكلام الأمور المنهجية التي يدافع عنها أهل العلم، فيردون على أهل الباطل والانحراف، فهذا حتم واجب، وقد بينه العلماء وقاموا به خير قيام، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
وكذلك من أفضل ما يقي المسلم من الخصومات التي تحدث بين الناس، زيادة على ما ذكر: البعد عن الفضول بأنواعه المعروفة، خصوصا فضول المخالطة؛ أي الزيادة والإكثار منها، وفضول الكلام والاستماع، مع الاهتمام بحفظ الوقت وترك الخوض مع الناس فيما يخوضون فيه، والبعد عن الجدال، والترك والإعراض عن الظلمة الهاتكين للأعراض، المعتدين على حرمتها، المفتعلين للعداوات، وتجاهلهم وتهميشهم بالكلية، وترك مخاصمتهم والخصومة عنهم، وإعمال الصبر في ذات الله والاحتساب مع الاتقاء بالذكر والدعاء؛ فإن العاقبة للمتقين والمحسنين.
قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) ]النساء: 105[، وقال جل وعز : ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)) ]النحل: 127-128[وقال سبحانه: ((فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ)) ]طه: 130[.
فالعمر يمضي مسرعا، وهو أعز من أن يقضيه المؤمن في الخلافات والخصومات، والوقت ثمين ويمر بسرعة عجيبة، وهو بمثابة الخزائن للأعمال، وسيحاسب العبد عليه يوم القيامة؛ يوم يندم من لم يكترث لأيامه؛ فأهدر أوقاتها، ولم يهتم لما يمضي فيه وقته من كلام وعمل، نسأل الله تعالى أن يعافينا وجميع المسلمين.
كتبه: أبو فهيمة عبد الرَّحمن عيَّاد البجائي
بجاية، يوم السبت 15 رجب 1442 ه.
الموافق ل: 27/02/2021 م.