نصيحة في ترك الرّدّ على أهل الجهالات

 

بقلم: أبي فهيمه عبد الرّحمن عيّاد البجائي

 

   بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أمّا بعد:

   فهذه نصيحة أحببت أن أسديها لإخواني الأحبة في هذا الفضاء -الإنترنت-، حيث أنّنا نرى بين الحين والحين بعض المنشورات التي تحمل في طيّاتها جهالات أصحابها، يصوغونها في قالب من التَّعيير وبذاءة الكلام والسَّفه، وهذا لا شكَّ أنّه يعلمك بما في قلب ذلك الكاتب الذي رخصت عليه نفسه، ورقّ دينه، ومرج ذوقه؛ فسمح لنفسه أن تتسفّه، ولقلمه أن يتهكّم؛فنزل إلى دركات النَّوكى من أهل الفجور والسّباب، أعاذنا الله جميعا.

   هذا، فكان لزاما على أصحاب المروءات أن لا يقابلوا أهل السّفاهات والحماقات بجنس صنيعهم، فينزلوا معهم إلى دركاتهم، وإنّما موقف المؤمن في مثل هذه الحال هو اتّباع طريق السّلف الصّالح -رضي الله عنهم جميعا-؛ فقد ضربوا أروع الأمثال في ترك الرّدّ على أهل الفجور إعمالا لأمر نبيّهم -صلّى الله عليه وسلّم- في الترفّع عن سفاسف الأمور، حيث قال -صلّى الله عليه وآله وسلّم- :”إنّ الله كريم، يحبّ الكرم، ويحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها.” (السّلسلة الصّحيحة)، قال الجوهري في الصّحاح:” السَّفساف: الرَّديء من كلّ شي، والأمر الحقير”، وكذا امتثالا لقوله -صلّى الله عليه وسلّم- :”لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن النّاس أحسنّا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم؛ إن أحسن النّاس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا.” (سنن التّرمذي)، بل سبق هذه الأحاديث الكريمة قول ربّنا تبارك وتعالى في مدحه عباده أهل السّكينة والوقار الذين أضافهم إلى اسمه الرّحمن، فقال -جلّ وعزّ- ((وعباد الرّحمن الذين يمشون على الأرض هوْنا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) الفرقان: 63.

   قال العلّامة السّعدي -رحمه الله-:” ((وإذا خاطبهم الجاهلون)) أي: خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا الوصف ((قالوا سلاما)) أي: خاطبوهم خطابا يَسلمون فيه من الإثم، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله؛ وهذا مدح لهم بالحلم الكثير، ومقابلة المسيء بالإحسان، والعفو عن الجاهل، ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال” اه. من تفسير الشّيخ السّعدي -رحمه الله-.

   هذا مع محاسبة أنفسهم لما يخرج من أفواههم، فكانوا يقتدون بالصّالحين الأخيار، ويهربون من صفات الفسقة والمنافقين الأشرار، واقفين عند ذمّ نبيّهم -صلّى الله عليه وسلّم- للمنافقين الذي وصفهم أنّهم من آياتهم أنّ أحدهم :”…إذا حدّث كذب…وإذا خاصم فجر.” (البخاري ومسلم).

   فالمؤمن بحكم إيمانه وسلامة فطرته لا يرضى من نفسه غير الكلام الطيّب الذي هو عنوان طيبة القلب، وشهامة النَّفس، ونبل الخلق، وكرم المعدن، مصداقا لقول الله -جلّ وعزّ- : ((الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيّبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم)) النور: 26.

   قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-:” الخبيثات من القول للخبيثين من الرّجال، والخبيثون من الرّجال للخبيثات من القول.” (تفسير الطبري).

   وفي الحديث: “إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلّا طيبا.” (مسلم)؛ فليربأ المسلم بنفسه عن الانحدار إلى قعر التعيير والفجور وقول الكذب والزُّور، بل والافتراء وهو تعمّد الكذب وتحرّيه، فإنّه متى نزل إليه المرء استمرأ تلك الصّفات الذّميمة وتعوّدها والعياذ بالله، فأصبح لا يكترث لما يخرج من فيه، ولا ينتبه لما ينطق به، والله المستعان.

   والمؤمن من صفاته الصّبر، والصّبر من أعظم العبادات التي يتقرّب بها العبد إلى خالقه ومولاه سبحانه، ومن الصّبر الضّرب صفحا عن جهل من يجهل عليه من أهل الجهالات، امتثالا لقول الله تبارك وتعالى: ((واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا)) المزمل: 10.

   قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- :”قوله -تعالى- :((واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا))؛ أي واصبر على ما يقولون، أي من الأذى والسبّ والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم… واهجرهم هجرا جميلا؛ أي لا تتعرّض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم.” (تفسير القرطبي).

   وفي آية كريمة أخرى يحثّ الله سبحانه وتعالى فيها نبيّه محمّدا -صلّى الله عليه وسلّم- زيادة على الصّبر بالتّسبيح والتّحميد والذّكر في أوقات معيّنة فاضلة؛ فهو علاج المؤمن النّاجع، وسلاحه الذي به يدفع ويدافع؛ الذي متى استعمله لم تصبه سهام الغدر والحقد التي يصوّبها إليه من هو خلفه، فقال الله -تعالى- :((فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النّهار)) طه: 130.

   وقال الشّاعر: ولا خير فيمن لا يوطِّن نفسه على نائبات الدَّهر حين تنوب

   وليعلم المؤمن أنّ الله يبتليه ولا بدّ؛ فالدّنيا دار امتحان وبلاء، وإنّ من ابتلاء الله له أن يطلُع عليه بين الفينة والأخرى من ينال منه بسوء القول والاستهزاء، ولكنّه إن صبر واتّقى واتّبع شريعة ربّه في ذلك، انقلبت البليّة عطيّة، وإنّ كثرة العطاء بكثرة البلاء والله المستعان.

   وما أجمل المثل القائل: وإذا أراد الله نشر فضيلة طُوِيَت، أتاح لها لسان حسود.

   واعلم أخي أن منشأ أغلب تلك الأوصاف الذّميمة التي سبق ذكرها إنَّما هو الحسد والحقد، والحاسد، ومثله الحاقد، صاحب طبع لئيم، تختلج في نفسه مشاعر الضَّغينة، والكراهيَّة، وعدم الرّضى، والتّوق للانتقام، والثّأر، والشّماتة؛ لا تهدأ له بال ولا يسعد في حال من الأحوال؛ صاحب نفسية مريضة، وشخصيّة مهزولة، وأخلاق مرذولة، همّه الصّعود بلا درج، والتسلّق على ظهر غيره، أعياه حبّ نفسه ورؤية عظمتها، وهي ذليلة ! فيشرأبّ إلى الدَّرجات العلى بأخلاق وطبائع السَّفلة والسّوقة، أعاذنا الله وجميع إخواننا المسلمين.

   ولله درّ القائل: لله درّ الحسد ما أعدله ! بدأ بصاحبه فقتله !

   فالله الله أيّها الفضلاء أن تتدنّسوا بأخلاق من لا يرقب الله تعالى ولا يعبأ بما يخرج من فيه، وكأنّه أمِن الوقوف بن يدي الجبّار -عزّوجل- وحسابه ((يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)) الشعراء: 88.

   فكن أنت صاحب هذا القلب السَّليم، وامض الأيام واعبر العمر في إصلاحه وإصلاح قاله، فإنّ ربّك قد أخبرك أنّ هذا هو الذي ينفعك يوم القيامة، فلا تعجزنّ ! نسأل الله سبحانه العون والتّوفيق والسّداد.

   وفي الأخير، أذكرك أخي القارئ الحصيف بقول رسولك رسول الهدى -صلّى الله عليه وسلّم- الذي وعد وهدّد هذا الصّنف من النّاس ممّن لا يخشى الله فيما يتفوّه به، فقال:”ومن خاصم في باطل وهو يعلم، لم يزل في سخط الله حتّى ينزع، ومن قال في أخيه ما ليس فيه أسكنه الله رَدْغَةَ الخَبال حتّى يخرج ممّا قال.” (أحمد وأبو داود)؛ وردغة الخبال عصارة أهل النّار كمّا فسّرها النّبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم-.

   أعاذنا الله من النّار ومن كل عمل وقول يهوي بصاحبه في هوّتها، آمين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّه المصطفى الأمين.

بجاية: يوم الثّلاثاء 10 صفر 1441/الموافق ل: 09 أكتوبر 2019م.

لتحميل نسخة بي دي آف:

نصيحة في ترك الرد على أهل الجهالات

  نشر موقع:

https://scienceetpratique.com/نصيحة-في-ترك-الرّدّ-على-أهل-الجهالات/