« الكذب أخبث من البدع »… فما أقبحها من كبيرةٍ لا يقربها المؤمن

لتحميل نسخة PDF اضغط على الرَّابط

الكذب أخبث من البدع.. فما أقبحها من معصية لا يقربها المؤمن

 

الحمد لله كما يحبُّ ويرضى، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّه المصطفى، أمَّا بعد:

فهذه مقالةٌ في بيان خطورة الكذب، وقبحه، وعظم جرم الكذَاب، وأنَّه من كبائر الذُّنوب، وأنَّه جاء فيه الوعيد الشَّديد في الكتاب والسُّنَّة، وأنَّ السَّلف عظَّموا أمر الكذب والكذَّابين؛ لشناعة هذه المعصيَّة وخبثها؛ وفي زماننا قد تساهل كثيرٌ من النَّاس في الكذب، فلا يتورَّعون عنه حتَّى في صغائر الأمور، وأنَّ الكذب يغذِّي الشَّائعات بل هو سببها ومنبعها، فتنتشر في المجتمع المسلم، فتحدث الفوضى بين النَّاس، وما أكثر الكذَّابين في هذا الزَّمان، لا كثَّرهم الله، ومن تأمَّل واعتبر فيما حدث في بعض بلاد المسلمين من خرابٍ للأوطان وعذابٍ للعباد؛ استيقن أنَّ الكذب كان من أعظم الأسباب في ذلك الدَّمار، لكثرة ما أشاعه دعاة الفتن من أكاذيب.

وأصبح النَّاس في زماننا يسمعون الكذب ليل نهار وفي شتَّى مناحي الحياة، عبر وسائل الإعلام المختلفة؛ من القنوات، والإذاعات، والجرائد، وفي وسائل التَّواصل، والانترنت عمومًا، وإلى الله المشتكى، ويَعظُم الكذب فيما يتعلَّق بالدِّين ويلحق الضَّرر بالمسلمين، فوجب تحذير النَّاس من الكذب على الدَّوام والتَّحذير من الكذَّابين ومحاربتهم، ولا سِيَّما الفتَّانين، فكتب هذا المقال لبيان عظم خطر هؤلاء وشرِّهم المستطير.

فنسأل الله تعالى أن ينفع به لما فيه من استدلال بآيات الكتاب الحكيم، وأحاديث النبِيِّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم واستشهادٍ بكلام أهل العلم وأقوالهم، وعسى أن يكون فيه تعليمٌ للجاهل، وتذكيرٌ للنَّاسي، وتنبيهٌ للغافل، وعظةٌ للقاسي، والله من وراء القصد، وهو وحده الموفِّق لكلِّ خير.

  1. الكذَّاب أخبث من المبتدع:

قال العلَّامة القدير والمجاهد الكبير: الشَّيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه اللّه ورعاه في كلمةٍ حذٍّر فيها من أهل الضَّلال والأهواء المحاربين لمنهج السَّلف، وهزَّ بها أركان الكذَّابين المندسِّين من الحدَّاديِّين والمنحرفين وأضرابهم؛ ممَّن يشعل الفتن ويحدث القلاقل ويشيع الفوضى بما ينشره من أكاذيب عن العلماء وطلبة العلم وأهل الفضل، ويتَّخذون الكذب مطايا للوصول إلى مآربهم، والتَّرويج لمناهجهم ودعواتهم، وتمزيق أهل السُّنَّة وتشتيت جماعتهم؛ فقال -حفظه الله- : « الكذب أخبث من البدع يا إخوان، والكذَّاب أخبث عند أهل السُّنَّة من المبتدع؛ المبتدع يُروى عنه، رووا عن القدريَّة، رووا عن المرجئة، رووا عن غيرهم من أصناف أهل البدع، ما لم تكن بدع كفريَّة؛ ما لم يكن كذَّابا، ولو كان ينتمي إلى السُّنَّة: كذَّاب ! أحطُّ من أهل البدع ! ومن هنا عقد -بارك الله فيكم- ابن عَدْيٍ في كتابه الكامل حوالي تسع وعشرين بابًا للكذَّابين، وبابًا واحدًا لأهل البدع، وَقَبِل أهل السُّنَّة رواية أهل البدع الصَّادقين غير الدُّعاة. »[1]

وقد يستغرب البعض من وصف الشَّيخ ربيع حفظه الله الكذب بأنَّه أخبث من البدع، ولكن من تأمَّل كلامه وجده دقيقًا من عدَّة وجوه، منها كون الكذَّاب يتعمَّد الكذب ويتحرَّاه، بينما المبتدع يقع في البدعة لأسباب منها الجهل، والشُّبهة، والهوى، والتَّعصًّب، وغير ذلك، وكذلك فلخُبث الكذب، فإنه يدخل في النِّفاق والكفر والشِّرك والإلحاد، ويدخل في كثير من المعاصي الكبرى كما سيأتي، وقد سمَّى الله عزَّ وجلَّ الكفر كذبًا والكافر كاذبًا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وذكر الكذب والكاذبين في أكثر من تسعة وثمانين موضعًا[2]، والبدعة معروفة لدى السَّلفيِّين فيجتنبونها ويفرُّون من أهلها، بينما الكذب قد يخفى ولا يظهر أمره إلَّا بعد وقوع الشَّرِّ، وقد حصل هذا كثيرًا، خصوصًا وأنَّ الكذَّابين من أهل الفتن أصبحوا يظهرون الصَّلاح ويلبسون لباس السَّلف، والكذب يدخل أيضًا في البدعة نفسها، من جهة نسبتها للشَّرع الحنيف كذبًا وزورًا؛ والسَّلف قبلوا رواية المبتدع الصَّادق كما ذكر الشَّيخ حفظه الله، وبعضهم لم يقبل رواية الكذَّاب ولو تاب كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي -رحمه الله- (باب في أنَّ الكاذب في غير حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تردُّ روايته)، قال: « قد ذكرنا آنفًا قول مالك بن أنس في ذلك ويجب أن يُقبل حديثه إذا ثبتت توبته، فأمَّا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوضع الحديث وادعاء السَّماع، فقد ذكر غير واحد من أهل العلم، أنَّه يوجب رد الحديث أبداً، وإن تاب فاعله.. »[3] ثمَّ ذكر بعض أقوال الأئمَّة في ذلك منهم الإمام أحمد وابن المبارك وغيرهم رحمهم الله جميعًا؛ ثمَّ كلام الشَّيخ حفظه الله في وصفه هذا يشبه كلام السَّلف الذين أطلقوا القول في تعظيم خطيئة الكذب، كقول عليٍّ رضي الله عنه: »أعظم الخطايا عند الله: اللِّسان الكذوب، وشرُّ النَّدامة، ندامةُ يوم القيامة. »[4] وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه كان يقول في خطبته: » شرُّ الرَّوايا روايا الكذب، وأعظم الخطايا اللِّسان الكذوب. »[5] وقول مسروق رحمه الله: »ليس شيءٌ أعظمَ عند الله من الكذب. »[6]

ولا يُفهم من هذا الكلام أنَّ أمر البدعة هيِّن وسهل، بل أمرها عظيم، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ]آل عمران: 106[، قال ابن كثر رحمه الله: »يعني يوم القيامة، حين تبيَضُّ وجوه أهل السُّنَّة والجماعة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة والفرقة، قاله ابن عبَّاس رضي الله عنهما. »[7] وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: » إِيَّاكُمْ ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة. »[8] وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: » من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. »[9]

  1. دخول الكذب في كثير من الكبائر:

قال يزيد بن ميسرة رحمه الله : »الكذب يسقي باب كلِّ شرٍّ، كما يسقي الماء أصول الشَّجر. »[10]؛ فالكذب مع عظم شرِّه وخطر أثره، فإنَّه يدخل في صنوفٍ عدَّة من كبريات المعاصي، سواء تلك المتعلِّقة بالقلوب أو تلك الخاصَّة بالجوارح؛ فمن الصِّنف الأوَّل: النِّفاق، والرِّياء، وسوء الطَّنِّ بالله، والكِبْر، والطِّيَرة، والكفر، والشِّرك وغيرها، ومن الصِّنف الثَّاني: الحَلِف بغير الله وهو الشِّرك الأصغر، وسوء الظَّنِّ بالمسلمين، والكِهانة، والعِرافة، وادِّعاء علم الغيب، وشهادة الزُّور، والغيبة، والنَّميمة، والقذف، وادِّعاء ما ليس له، والتَّشبُّع بما لم يُعطَ، وانتساب الإنسان لغبر أبيه، وذو الوجهين، وقول: هلك النَّاس، والرِّبا، والرِّشوة، وتسمية الفاسق والمنافق سيِّدًا، والبدع والمحدثات، والكذب على الله ورسوله، وغير ذلك، أعاذنا الله وسائر المسلمين[11] ؛ فكلُّ هذه الكبائر تشترك فيما بينها من جهة الكذب الذي يدخلها جميعًا؛ حيث أنَّه إخبار عن الشَّيء خلاف الصِّدق؛ أي على غير ما هو عليه في الواقع، سواء فيه العمد والخطأ [12] ؛ والكذب ليس محصورًا على الكلام والأقوال فحسب، بل تتلبَّس به الأفعال والأعمال كذلك، ومن أمثلة ذلك: إخلاف الوعود، والرِّياء بالأعمال الصَّالحة، والخيانة، وتزوير الوثائق والشَّهادات، والبدع والضَّلالات، وغير ذلك، إلَّا أنَّ وقوعه في الكلام أكثر وأعمُّ ؛ فما أقبحها من خَلَّة وما أقبح أهلها، ولا أدلَّ على قبح وفظاعة الكذب من كونه من صفات اللَّعين إبليس، الذي بسببه أُخرج آدم وحوَّاء عليهما السَّلام من الجنَّة، قال الله تعالى : ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ ]الأعراف: 21[، وقال أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه : »يا أيُّها النَّاسُ إيَّاكُم والكَذِبَ، فإنَّ الكذبَ مُجانبٌ للإيمانِ »[13] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: »كلُّ الخِلالِ يُطوى عليها المؤمن، إلَّا الخيانة والكذب. »[14]

  1. ذكر أكثر من ثلاثين صفة من صفات الكذَّابين:

فالكذَّاب، نظرًا لكبر جريمته وما يترتَّب عنها من آثار وخيمة؛ فإنَّه يتَّصف بأوصافٍ كثيرةٍ متلازمةٍ، كلُّ صفةٍ تستدعي مثيلاتها وشبيهاتها، وكلُّ ذنبٍ منها يتداخل مع ذنبٍ أو ذنوبٍ أخرى كثيرةٍ، كما مرَّ آنفًا، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى: »ثمَّ إنَّ الله جعل الأشياء متلازمة، وكلُّ ملزوم هو دليل على لازمه؛ فالصِّدق له لوازم كثيرة؛ فإنَّ من كان يَصْدُق، ويتحرَّى الصِّدق، كان من لوازمه أنَّه لا يتعمَّد الكذب، ولا يخبر بخبرين متناقضين عمدًا، ولا يُبطن خلاف ما يُظهر، ولا يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ، ولا يخون أمانته، ولا يجحَد حقَّا هو عليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يمتنع أن ]تكون[ لازمةً إلَّا لصادقٍ؛ فإذا انتفت انتفى الصِّدق، وإذا وُجدت كانت مستلزمةً لصدقه، والكاذب بالعكس؛ لوازمه بخلاف ذلك. »[15]

فمن أبرز صفات الكذَّاب التي يتَّصف بها بحسب ما يقترفه من معاصي: صفة النِّفاق، لقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وأله وسلَّم: »آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ.« [16]، قال الحسن رضي الله عنه: »يعدُّ من النِفاق: اختلاف القول والعمل، واختلاف السِّرِّ والعلانيَّة، والمدخل والمخرج، وأصل النِّفاقِ، والذي بُني عليه النِّفاقُ: الكذب. »[17]، وقد سئل العلَّامة ابن باز رحمه الله هذا السُّؤال: » إذا كان الشَّخص دائمًا يكذب هل يُطلق عليه: من صفات المنافقين، أو يُقال: أنت منافق؟ » فأجاب: » يُقال: فيك خَصلة من خِصال النِّفاق، احذرها وتُبْ إلى الله منها.« [18]، وهذا يرجع إلى كون الكذَّاب يُبطن خلافَ ما يُظهر من حيث الإخبار؛ فيُخفي الحقيقة، ويُبدي الكذب ويتكلَّم به، ومن صفاته: الفجور في الأقوال والأفعال، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم « إذا كذَبَ العبدُ فَجَرَ. »[19]، وإلقاء الكلام على عواهنه، والرَّجم بالغيب وسوء الطَّنِّ والعمل به، قال الله تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ ]الأنعام: 116[، ويخرصون؛ بمعنى يكذبون[20]، والتَّخرُّص، قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ]الذَّاريات: 10 [، والتَّخرُّص؛ هو التَّكهُّن والتَّوقُّع بالظَّنِّ الباطل، قال الإمام الطَّبريِّ رحمه الله: » ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ يقول تعالى ذكره: لُعِن المتكهِّنون الذين يتخرَّصون الكذب والباطل فيتظنَّنونه. »[21] والخرَّاصون: الكذَّابون[22] وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : » إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ. »[23]، والإرجاف؛ الذي هو إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به، والخوض في الأخبار[24] ممَّا يولِّد الاضطراب والارتباك في المجتمع؛ حيث أنَّ الإرجاف من الرَّجفان؛ أي الاضطراب الشَّديد[25]، قال الله تعالى عن المرجفين من المنافقين والكذّابين : ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ]الأحزاب: 60 [، والغيبة والبهتان، وهو القذف بالباطل وافتراء الكذب[26]، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : »أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَة؟ قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم، قَال: ذِكْرُكَ أَخاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَان في أَخِي مَا أَقُول؟ قَال: إِنْ كَان فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ.« [27]، والاضطراب في المقال، والتَّناقض، والنِّسيان، والقلق، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : »إنَّ الصِّدقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَالكَذِبَ رِيبَةٌ. »[28]، قال المناوي رحمه الله: »وَالكَذِبَ رِيبَةٌ » أي : يقلق القلب ويضطرب. »[29] وضعف العقل، والطَّيش، والتَّهوُّر، قال الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى: »ما خان شريفٌ، ولا كذب عاقلٌ ولا اغتاب مؤمن. »[30]، ولا شكَّ أنَّ ادِّعاء الرَّجل على أخيه ما ليس فيه؛ كذبٌ، بل بهتانٌ وغيبةٌ، كما سبق، وخسَّة النَّفس، وانعدام المروءة، قال الأحنف أيضًا رحمه الله: »اثنان لا يجتمعان أبدًا: الكذب والمروءة. »[31]، وقلَّة الحياء، وضعف الورع أو انعدامه، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : »إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شِئتَ« [32]، وكثرة الحلِف مع مهانة النَّفس، قال الله تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ]القلم: 10 [، قال الإمام ابن كثر رحمه الله: »وذلك أنَّ الكاذب لضعفه ومهانته، إنَّما يتَّقي بأَيْمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كلِّ وقتٍ في غير محلِّها، قال ابن عباس : المهين الكاذب. »[33]، وإنفاق السِّلعة بالحلِف الكاذب، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : »ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم يومَ القيامةِ ، ولا يُزكِّيهم ، ولهم عذابٌ أليمٌ » ؛ فذكر منهم « والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحلِفِ الكاذبِ أو الفاجرِ. »[34]، واقتطاع مال المسلم أو حقًّا من حقوقه بالكذب والحلِف عليه، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : »مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِه فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ. »[35]، وشهادة الزُّور، قال الله تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ] النُّور: 13 [، والتَّشبُّع بما لم يُعْطَ، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم :« المُتَشَبِّعُ بما لَمْ يُعْطَ، كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ »[36]، والطَّعن في نيَّات النَّاس، وكأنَّه شقَّ على قلوبهم وتبيَّن ما في صدورهم ؛ فإنَّ ما في القلوب، لا يطَّلع عليه إلَّا علَّام الغيوب، والقدح في أشخاصهم، وشخصيَّاتهم؛ لافتقاره للحجَّة والصِّدق واتِّباعه لبُنَيَّات الطَّريق، وتفسير أعمالهم تفسيرًا سَلبيًّا، وحملها على المحامل السَّيِّئة؛ لغلبة سوء الظَّنِّ عليه وقوَّة الهوى، والوشاية، والتَّحريش، والجرأة في مقارفة الباطل، والمراوغة في الكلام والمناورة بالأفعال؛ فتراه بذيء اللِّسان، متطاولًا يبهت الأبرياء، متحاملًا على الفضلاء، مدَّعيًا عليهم أمورًا من نسج خياله وأوهامه، جزاء عدم احتكامه لنصوص الشَّرع المحرِّمة لتلك المعاصي والشَّافية لتلك الأمراض؛ فلم يتركها، بل جعل يستسيغها بعد أن تعوَّدها وقلَّ ورعُه فأمعن في اجتراحها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ]الجاثية: 21 [.

ولقد رأينا نماذج كثيرة على هذا النَّمط في الفتن التي مرَّت على السَّاحة الدَّعويَّة، وآخرها فتنة الصَّعافقة؛ في كُبرائهم وأصاغرهم؛ حيث أتوا من العجائب والمصائب والبواقع ما حارت منه العقول وأُغلقت دونه الفهوم، وكذلك يصنع الكذب بأهله.
  1. معنى الفجور في الخصومة:

قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: »وَإيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ! فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَالفُجُورُ يَهْدِي إِلى النَّارِ. » [37] ، وقال أيضا صلَّى الله عليه وسلَّم : » أَرْبَعُ خِلالٍ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنافِقًا خالِصًا: مَن إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ، ومَن كانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها. » [38] ، وقد « جاءَ رجل إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ : يا رسولَ اللَّهِ ما عَملُ الجنَّةِ ؟ قالَ : الصِّدقُ، وإذا صدَقَ العبدُ بَرَّ، وإذا بَرَّ آمَنَ، وإذا آمَنَ دخلَ الجنَّةَ، قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، ما عمَلُ النَّارِ ؟ قالَ: الكذِبُ، إذا كذَبَ العبدُ فجَرَ، وإذا فجرَ كفَرَ، وإذا كفَرَ دخلَ النَّارَ. »[39]

قال الإمام ابن باز رحمه الله: » (وإذا خاصَمَ فَجَرَ) كذب في خصومته، وتوسَّع في الكذب والفجور، وظلم لعدم إيمانه أو لضعف إيمانه، فالفجور هو التَّوسُّع في المعصية وإظهارها -نسأل الله العافية-، كانفجار الماء؛ فالحاصل أنَّه يتوسَّع في الكذب والعدوان على الخصم واللَّدد في الخصومة، لضعف إيمانه أو عدم إيمانه، نعوذ بالله، هكذا شأن المنافقين لعدم إيمانهم، ولهم صفات بيَّنها الله في القرآن غير هذه الصِّفات… »[40] ؛ فبهذا المعنى تكون كلَّ صفات الكذَّاب الآنفة نابعةً من صفة الفجور التي هيَّ أخصًّ خصائصه.

  1. وسائل الكذَّاب ومنها الزَّعم وهو شائع وبيان ما هو:

ومن وسائل الكذَّاب وأسلحته، زيادةً على الكذب، قول الزُّور، وقيل وقال، ونشر الشَّائعات، وقالوا وزعموا، والزِّيادة في النَّقل عمَّا سمع بقصد الأذيَّة، وشحن الصُّدور،، وإرخاء الأذن للكاذبين، وإقرارهم على باطلهم، والتآمر معهم، والإصغاء للمتخرِّصين، وحضور مجالسهم والتَّخرُّص معهم؛ فلمَّا لم يجد الكذَّاب مطاعن شرعيَّة فيمن ينصب لهم العداء ليطعنهم بها: اختلق لهم عيوبًا، وألصق بهم ذنوبًا، ولفَّق لهم تهمًا، وادَّعى عليهم أمورًا لم تخطر على بال… غير بال الكذَّاب، وفي قصَّة الإفك شواهد على بعض تلك الوسائل، وعلى ما يحدثه الكذب والبهتان من اضطراب وحيرة وحزن وقلق، وقد كان لرأس المنافقين: عبد الله بن أبي ابن سلول النَّصيب الأكبر من ذلك، حيث أنَّه هو الذي تولَّى كِبَره[41].

وقد قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: » كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ. »[42]، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : » بِئسَ مطيَّةُ الرَّجلِ زَعَمُوا. »[43] ، ففي هذا الحديث  الحضُّ على التحرِّي والتبيُّن من صحَّة الأخبار، والنَّهيُ عن الإخبارِ بلا رويَّة ولا تثبُّتٍ؛  فينتُج عن عدم التَّثبُّت والتَّأكُّد مفاسد كثيرَة؛ من ترويجٍ للكذب والإشاعات، وتخبُّطٍ في المجتمع والعلاقات وظلمٍ للنَّاس؛ قال الله تعالى مناديًا أهل الإيمان آمرًا لهم : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ ]الحجرات : 6[، وذكر الإمام القرطبيُّ أنَّ في « قراءة حمزة والكِسَّائي : ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾، قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله أنَّ الفاسق: الكذَّاب، وقال أبو الحسن الورَّاق: هو المعلن بالذَّنب، وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله. »[44] وقال سماحة الشَّيخ العلَّامة عبد العزيز آل الشَّيخ: » والمراد من التَّبيُّن التَّعرُّف والتَّفحُّص، ومن التَّثبُّت الأناة وعدم العجلة، والتُّبصُّر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتَّى يتَّضح ويظهر. »[45]

قال ابن مفلح رحمه الله: »قال ابن الجوزي في تفسيره: كان ابن عمر يقول « زعموا مطيَّة الكذب » وكان مجاهد يكره أن يقول الرَّجل: زعم فلان، اقتصر ابن الجوزي على الكراهة عنده (…) وإنَّما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا يثبت فيه، وإنَّما يُحكى على الألسن على سبيل البلاغ، قدَّم من الحديث ما كان سبيله، والزّعم بضمِّ الزَّاي والفتح قريبٌ من الظَّنِّ، قال ]النَّووي[ في شرح مسلم في سجود التِّلاوة: الزَّعم يُطلق على القول المحقَّق، وعلى الكذب، وعلى المشكوك فيه، وينزل كلَّ موضع على ما يليق به وقال في أوَّل خطبة مسلم: كثر الزَّعم بمعنى القول. »[46]

وقال معالي الشَّيخ العلَّامة صالح الفوزان حفظه الله تعالى ورعاه: »فالكذب من كبائر الذُّنوب، ومن أنواع الكذب: الاعتماد على الزَّعم، الإنسان يتثبَّت ولا يخبر بشيء أو يتكلَّم بشيء إلَّا إذا تثبَّت من صحَّته ؛ حتَّى يبرأ من الكذب، أمَّا أن يعتمد على الزَّعم ففي هذا الحديث الذي سمعتم : » بِئسَ مطيَّةُ الرَّجلِ زَعَمُوا. » أي يتَّخذ الزَّعم وسيلةً له، فيحدِّث النَّاس ويخبر ويقول زعم فلان أو زعموا كذا وكذا، فاترك كلمة زعموا، إذا لم تتثبَّت اتركها، والله جلَّ وعلا يقول : ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ ]التَّغابن : 7[، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾  ]النِّساء : 60[ ، يزعمون؛ فالزَّعم كذب؛ فالإنسان يتثبَّت فيما يحدِّث، وفيما يصدر عنه، وفيما ينقله من الأخبار. »[47]

والزَّعم يأتي على معنى القول؛ فزعم بمعنى: قال[48]، « وأكثر ما يُقال فيما يشكُّ فيه »[49] وعلى: « القول بلا دليل »[50] ، وهو « حكاية قولٍ يكون مظِنَّة (أي: احتمال) للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كلِّ موضعٍ ذمَّ القائلين به، نحو ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ]التَّغابن : 7[،﴿بَلْ زَعَمْتُمْ﴾ ]الكهف : 48[، ﴿زَعَمْتُمْ من دُونِهِ﴾ ]الإسراء : 56[« [51]؛ وقال العلَّامة بكر أبي زيد رحمه الله تعالى: »لم تجئ لفظة « زعم » في القرآن إلَّا في الإخبار عن قومٍ مذمومين في أشياءٍ مذمومةٍ، فكره النَّاس المذمومين في أخلاقهم، والكافرين في أديانهم، والكاذبين في أقوالهم… »[52]

وقد كرِه الله عزَّ وجلَّ لنا على لسان رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم القيل والقال، فقال : »إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. »[53] ، قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: « كره وحرَّم ليس بينهما فرق؛ لأنَّ الكراهة في لسان الشَّارع معناها التَّحريم، ولكن هذا والله أعلم من باب اختلاف التَّعبير فقط. »[54]

  1. جناية الكذَّاب وعقوبته:

فالكذَّاب لا يتَّقي الله فيما يقول ويفعل؛ من السَّعي في الفتن: بالغيبة، والنَّميمة، والتَّحريش بين النَّاس؛ فيُشعل بذلك العداوات، وينشر الخصومات، ويضيِّع على النَّاس عزيز أوقاتهم: بخسيس أفعاله وأقواله، ويشغلهم عن العلم والعمل، وما قامت الفتن إلَّا على ساق الكذب، فتصخب به سوق الكذَّابين، وما فتنة الصَّعافقة عنَّا ببعيد، وقبلها فتنة المميِّعة عندنا؛ فنُهشت لحوم العلماء وطلبة العلم والصَّالحين؛ فيا لله ما أعظم سوءة الكذَّابين، وما أفظع عقابهم عند ربِّهم إن لم يتوبوا ويتحلَّلوا ويُصلحوا.

قال الشَّيخ العلَّامة محمَّد علي فركوس حفظه الله وأيَّده بنصره : » فالكذب خلافُ الصِّدق، وهو محرَّمٌ شرعًا، ومعدودٌ مِنْ كبائر الذُّنوب التي تهدي إلى الفجور الذي هو عَلَمٌ على النَّار وسبيلٌ لها، والمسلم يتَّقي النارَ ويعمل على تجنُّبها لئلَّا يقع فيها؛ لقوله تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6] الآية، وقد توعَّد الله الكاذبين باللَّعنة وسوء المصير في نصوص متعدِّدة، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِى ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ۖ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْكَٰذِبُونَ ]النَّحل: 105[، وقوله تعالى: ﴿فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ ]آل عمران: 61[ (…) كما أنَّه من أسبابِ مَحْقِ البَرَكةِ حيثُ قال النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في البَيِّعَانِ: « …فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا.[55]« [56]، وقال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾] الجاثية: 7[ .

وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذات غداة: »إنَّه أتانِي اللَّيْلَةَ آتِيانِ، وإنَّهُما ابْتَعَثانِي، وإنَّهُما قالا لي انْطَلِقْ (…) فانْطَلَقْنا، فأتَيْنا علَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفاهُ، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بكَلُّوبٍ مِن حَدِيدٍ، وإذا هو يَأْتي أحَدَ شِقَّيْ وجْهِهِ فيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قَفاهُ، ومَنْخِرَهُ إلى قَفاهُ، وعَيْنَهُ إلى قَفاهُ قالَ: ورُبَّما قالَ أبو رَجاءٍ: فَيَشُقُّ – قالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلى الجانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ به مِثْلَ ما فَعَلَ بالجانِبِ الأوَّلِ، فَما يَفْرُغُ مِن ذلكَ الجانِبِ حتَّى يَصِحَّ ذلكَ الجانِبُ كما كانَ، ثُمَّ يَعُودُ عليه فَيَفْعَلُ مِثْلَ ما فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى قالَ: قُلتُ: سُبْحانَ اللَّهِ ما هذانِ؟ (…) وَأمَّا الرَّجلُ الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه؛ فإنَّه الرَّجل يغدو من بيته، فيَكذِبُ الكَذْبَةَ تبلُغُ الآفاق. »[57]، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: »دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلى مَا لَا يُرِيبُكَ؛ فَإنَّ الصِّدقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَالكَذِبَ رِيبَةٌ. » [58]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: »مَن قالَ في مُؤْمِنٍ ما لَيسَ فيهِ أسْكنَهُ اللَّهُ رَدغةَ الخَبالِ حتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قالَ. »[59] وردعة الخَبال هي عُصارة أهل النَّار، كما فسَّرها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حديث آخر[60].

  1. حبل الكذب قصير:

ولكنَّ الكذب لا بدَّ له أن يتلاشى، فيندثر ويزول، ولو بعد حين، ولا يبقى إلَّا الصِّدق وقول الحقِّ: وحبل الكذب قصيرٌ، ولا تدوم مَحْمَدَةٌ لكاذبٍ، ولا يصحُّ إلَّا الصَّحيح، قال الله جلَّ وعلا: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ ]الأنبياء : 18[ ؛ وقال جلَّ وعزَّ : ﴿قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ ٱلْبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ ]سبأ : 49[، وقال عزَّ وجلَّ : ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ ]الإسراء : 81[.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى: »لم يُعرف قطُّ في بني آدم أنَّه اشتبه صادقٌ بكاذبٍ إلّا مدّة قليلة، ثمّ يظهر الأمر، وليس هذا كالضَّلال في أمور خفيَّة ومشتبهة على أكثر النّاس؛ فإنَّ التَّمييز بين الصَّادق والكاذب يظهر لجمهور النّاس وعامّتهم بعد مدّة، ولا يطول اشتباه ذلك عليهم، وإنَّما يشتبه الأمر عليهم فيما لم يُتعمَّد فيه الكذب، بل أخطأ أصحابه؛ فأُخِذ عنهم تقليدًا لهم، وأمَّا مع كون أصحابه يتعمَّدون الكذب؛ ]فهو[ لا يخفى على عامَّة النَّاس. « [61]

فَوَجَبَ التَّحذير من الكذب والكذَّابين، وتشنيع أمر الكذب للنَّاس، ودعوة الكذَّابين إلى الخوف من اللَّه عزَّ وجلَّ ونصحهم ووعظهم بترك الكذب والتَّوبة منه؛ فإنَّ الكذب والكذَّابين خطرٌ على أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، قال الله تعالى: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ۚ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ ]الأحزاب : 8[، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ]التَّوبة : 119[.

 

فاللَّهمَّ زيِّننا بزينة الصِّدق والإيمان، واكتبنا في الصَّادقين، واجمعنا بهم، ونعوذ بك اللَّهمَّ من الكذب والكذّابين؛

وسبحانك اللَّهمَّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وكتبه أخوكم: أبو فهيمة عبد الرَّحمن عيَّاد البجائي

بجاية، يوم السَّبت: 11 جمادى الأولى.

الموافق ل: 26 ديسمبر 2020 م.

…………………………………..

[1] من جواب الشَّيخ حفظه الله على سؤال: « ما هو تعريف أهل السُّنَّة والجماعة للإيمان، وهل العمل داخل في الإيمان؟ »، وهو منشور على موقعه العامر: http://www.rabee.net/ar/print.php?typ=2&newsid=217

[2] « المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم » لمحمد فؤاد عبد الباقي (702-705).

[3] « الكفاية في علم الرَّواية » للخطيب البغدادي (117).

[4] « ذمُّ الكذب وأهله » لابن أبي الدُّنيا (19) (وهو مستلُّ من كتابه: « كتاب الصَّمت وأدب اللِّسان »).

[5]نفسه (20).

[6] نفسه (46).

[7] تفسير القرآن العظيم » لابن كثير (1/606-307).

[8] صحَّحه الألباني في « صحيح أبي داود » (4607).

[9] أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718).

[10] « ذمُّ الكذب وأهله » (32-33).

[11] تجد بعض هذه الكبائر وغيرها الكثير في كتاب « الكبائر » لشيخ الإسلام محمَّد بن عبد الوهَّاب رحمه الله تعالى.

[12] « المصباح المنير » للفيُّومي، مادة (كذب)، ص (201)، و »مجمل اللُّغة » لابن فارس، مادة (كذب)، ص (573).

[13] « ذمُّ الكذب وأهله » لابن أبي الدُّنيا (24).

[14] نفسه.

[15] « كتاب النُّبوات » لابن تيمية (1/554).

[16] رواه البخاري (6095) ومسلم (59).

[17] « ذمُّ الكذب وأهله » (20).

[18] موقع الشَّيخ رحمه الله العامر: https://binbaz.org.sa/fatwas/23192/هل-يوصف-بالنفاق-من-كان-داىم-الكذب

[19] انظر تخريجه تحت الرَّقم (39) من الهامش.

[20] « تفسير الجلالين » (164).

[21] « جامع البيان عن تأويل آي القرآن » للطَّبري (7/110).

[22] « الجامع لأحكام القرآن » للقرطبي (19/457)، وذكر الشَّيخ عبد العزيز آل الشَّيخ (الفتح الرَّباني: 4/371) عن الواحدي عن جميع المفسِّرين أنَّ المعنى: لُعن الكذَّابون، وعن الزَّجَّاج أنَّ الخرَّاصون هو الكذَّابون.

[23] رواه البخاري (5143).

[24] « الجامع لأحكام القرآن » (17/234).

[25] نفسه.

[26] « المصباح المنير » للفيُّومي مادة (بهت) (25).

[27] رواه مسلم (2589).

[28] انظر تخريجه تحت الرقم (58) من الهامش.

[29] « فيض القدير » للمناوي (3/529).

[30] « عيون الأخبار »(كتاب الطَّبائع، باب الكذب والقحَّة) لاين قُتَيْبة (2/26).

[31] نفسه.

[32] رواه البخاري (3484).

[33] « تفسير القرآن العظيم » لابن كثير (4/598).

[34] رواه مسلم (106).

[35] رواه مسلم (218).

[36] رواه مسلم (2130).

[37] رواه البخاري (6094) ومسلم (2607).

[38] رواه البخاري (3178) ومسلم (58).

[39] رواه أحمد في « مسنده » (10/126) وصححه أحمد شاكر.

[40] موقع الشَّيخ ابن باز رحمه الله: https://binbaz.org.sa/fatwas/23192/هل-يوصف-بالنفاق-من-كان-داىم-الكذب

[41] تُنظر قصَّة الإفك في « صحيح البخاري » (4141)، برواية صاحبة القصَّة: الصِّدِّيقة أمِّنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذا في كتب السِّيرة.

[42] رواه مسلم في مقدِّمة الصَّحيح (7).

[43] صحَّحه الألباني في « صحيح أبي داود » (4972).

[44] « الجامع لأحكام القرآن » للقرطبي (19/368).

[45] « الفتح الرَّباني مختصر تفسير الإمام الشَّوكاني »، للشَّبخ عبد العزيز آل الشَّيخ (4/335).

[46] « الآداب الشَّرعيَّة » لابن مفلح (27-28).

[47] من صوتيَّة للشَّيخ حفظه الله في شرح هذا الحديث بعنوان: التَّحذير من الكذب وبيان شيء من أنواعه.

[48] « مختار الصِّحاح » للرَّازي: مادة (زعم) (140).

[49] القاموس المحيط للفيروز آبادي: مادة (زعم) (1030).

[50] « كتاب التَّعريفات » للجرجاني (184).

[51] « مفردات ألفاظ القرآن » للأصفهاني (279).

[52] « معجم المناهي اللَّفظيَّة » للشَّيخ بكر أبي زيد (290).

[53] رواه البخاري (1477)، ومسلم (593(.

[54] « شرح رياض الصَّالحين » للشَّيخ العثيمين (3/211).

][55]أخرجه البخاريُّ في «البيوع» بابُ ما يمحق الكذبُ والكتمانُ في البيع (٢٠٨٢)، ومسلمٌ في «البيوع» (١٥٣٢)، مِنْ حديثِ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ رضي الله عنه[.

[56] موقع الشَّيخ فركوس حفظه الله العامر:  https://ferkous.com/home/?q=fatwa-355

[57] رواه البخاري (7047).

[58] رواه الترمذي وغيره وصحَّحه الألباني في « صحيح التَّرغيب والتَّرهيب » (2930).

[59] صحَّحه الألبانيُّ في « صحيح أبي داود » (3597).

[60] قال صلَّى الله عليه وسلَّم: »مَن شَرِبَ الخمرَ وسَكِرَ لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أَرْبَعِينَ صباحًا ، فإن مات دخل النارَ ، فإن تاب ، تاب اللهُ عليه ، وإن عاد فشَرِبَ فسَكِرَ ، لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أَرْبَعِينَ صباحًا ، فإن مات دخل النارَ وإن تاب تاب اللهُ عليه ، وإن عاد فشَرِبَ فسَكِرَ لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أَرْبَعِينَ صباحًا ، فإن مات دخل النارَ ، وإن تاب تاب اللهُ عليه ، فإن عاد كان حَقًّا على اللهِ أن يَسْقِيَه من رَدْغَةِ الخَبالِ يومَ القيامةِ قالوا يارسول الله وما رَدْغَةُ الخبالِ ؟: عُصَارةُ أهلِ النارِ. » صحَّحه الألباني في « صحيح الجامع » (6313).

[61] « كتاب النُّبوات » لابن تيمية (1/557).